بقلم الباحث في سلك الدكتوراه، علي لقصب
الانتخابات التشريعية الفرنسية 2024
تابعت بشغف كبير حالة الاستنفار السياسي التي عرفتها الجمهورية الفرنسية بعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية العامة والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة عقب الاعلان عن نتائج الانتخابات الأوروبية، والتي أعطت انتصارا كبيرا لليمين المتطرف الفرنسي بقيادة الجبهة الفرنسية. مما دفع الرئيس ووفق التقاليد الديمقراطية للجمهورية الفرنسية الخامسة للإعلان عن انتخابات مبكرة من أجل ” إعطاء الكلمة للشعب من جديد ” لتجديد الثقة في ولايته الرئاسية وأغلبيته البرلمانية.
ومن خلال مجريات الانتخابات في دوريها الأول والثاني وما أفرزته صناديق الاقتراع من نتائج ومخرجات، وأخذا بعين الاعتبار التباينات والفوارق الكبيرة بين أسس النظام الحزبي والانتخابي، وأساليب الممارسة السياسية والديمقراطية في فرنسا والمغرب، فيمكننا مع ذلك الوصول إلى بعض الخلاصات والاستنتاجات الدالة والتي يمكن إسقاط بعضها على السياق السياسي والانتخابي المغربي :
أولا: التحالفات السياسية: وضوح البرامج والمرجعيات.
دخلت الأحزاب السياسية الفرنسية لمعترك الانتخابات التشريعية بثلات تحالفات سياسية واضحة ومبنية على برامج ومرجعيات متقاسمة وهي :
– التحالف الرئاسي ( الوسط) Renaissance بقيادة رئيس الوزراء Gabriel ATTAL ، وبدعم من الرئيس الفرنسي Emmanuel MACRON.
– تحالف التجمع الوطني الفرنسي Le Rassemblement National بقيادة Jordan BARDELLA ، وبدعم من زعيمة اليمين المتطرف Marine LE PEN و زعيم الجمهوريين Eric CIOTTI .
– تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري Le Nouveau Front Populaire بمشاركة واسعة لكل مكونات اليسار الفرنسي وبدعم أساسي Jean Luc MÉLENCHON زعيم حزب فرنسا الأبية و Olivier FAURE زعيم الحزب الاشتراكي.
هذه التحالفات المتباينة على المستوى المرجعيات السياسية و نوعية البرامج الانتخابية المقدمة، ساهمت بشكل كبير في إنضاج شروط الاستقطاب السياسي والمشاركة الانتخابية لدى الشعب الفرنسي من مختلف الشرائح، وذلك من خلال إمكانية الاختيار بين ثلاثة عروض وبرامج مختلفة، وهو ما انعكس إيجابا على نسبة المشاركة السياسية التاريخية للناخب الفرنسي ، والتي بلغت 66.7٪ في الدور الأول، و 67٪ في الدور الثاني.
ثانيا- إعلام مواكب، منخرط ومتفاعل.
انخراط الإعلام العمومي والخاص الفرنسي في الحملة الانتخابية كان استثنائيا بكل المقاييس ، مناظرات يومية ، بلاطوهات موضوعاتية ، حوارات مباشرة ومواكبة يومية لحملات مختلف المرشحين-ات، وانخراط واسع لعدد من الفاعلين-ات والمؤثرين-ات على مواقع التواصل الاجتماعي في النقاش السياسي.
وقد ساهم ذلك بشكل كبير في الرفع من مستوى التعبئة السياسية التي عرفتها الجمهورية الفرنسية، وفتح المجال لمختلف الأطراف المعنية من الوصول لأكبر شريحة من الناخبين (ات)، وهو ما يؤكد جليا على أن الإعلام المستقل والمنخرط في قضايا النقاش العمومي هو أحد أهم أدوات إنضاج الممارسة الديمقراطية السليمة والواعية.
ثالثا – اليسار : ديناميكية مجتمعية وسياسية حية.
قدرة أحزاب اليسار على توحيد الرؤى والتصورات حول برنامج موحد، وتجاوز الخلافات الحادة بين مكونات الجسم اليساري الفرنسي، وتشكيل جبهة عمل مشتركة في ظرف 24 ساعة من تاريخ إعلان حل الجمعية العامة، والاتفاق على تقديم ترشيحات مشتركة في 577 دائرة إنتخابية في ثلاتة أيام بما يتطلبه ذلك من تقديم تنازلات و سحب ترشيحات لنواب سابقين ، هو مؤشر دال على أن الذات اليسارية حية وقادرة على أن تقدم نفسها كبديل سياسي ومجتمعي ، متى توفرت الإرادة من أجل بناء المشترك وتدبير الاختلاف والرهان على الذكاء الجماعي وتجاوز مسببات الفرقة والتشتت.
وهو ما أكدته نتائج الانتخابات التي خالفت كل التوقعات واستطلاعات الرأي من خلال فوز الجبهة الشعبية الجديدة ب 180 مقعد ، متقدما على تحالف الوسط الرئاسي 163 والتجمع الوطني ب 143 مقعدا.
رابعا – الشباب : طاقة هائلة وقدرة على خلق التغيير.
عرفت هذه الانتخابات مشاركة واسعة وغير مسبوقة لفئة الشباب وأبناء الأحياء الشعبية ، وقد شكلت هذه الفئات محورا أساسيا في برنامج والحملة الانتخابية لحزب فرنسا الأبية La France Insoumise أحد المكونات الرئيسية للجبهة الشعبية الجديدة ، وذلك من خلال ملامسة القضايا الرئيسية التي تشغل هذه الفئات سياسيا و اجتماعيا واقتصاديا ، وتقديم مرشحين-ات شباب ، والتفاعل معهم عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد كان لذلك انعكاس كبير ومباشر على النتائج النهائية للانتخابات ، وهو ما يؤكد بالملموس أن الشباب وخاصة أبناء الأحياء الشعبية ليس عازفا عن المشاركة السياسية بشكل مطلق، وأنه سيساهم بشكل أساسي متى فتح أمامه المجال ، وأخذت احتياجاته وأولوياته بعين الاعتبار في البرامج الانتخابية ، وتم التفاعل معه من موقع الفاعل والمساهم في إنتاج القرار العمومي وليس فقط من زاوية المستهلك للسياسات.
خامسا – المجتمع المدني : انخراط واع ومسؤول في مسارات صناعة القرار .
عرفت هذه الانتخابات انخراطا غير مسبوق للجمعيات والشبكات والتحالفات المدنية ، والديناميات الشبابية المهيكلة وغير المهيكلة ، والتنظيمات الطلابية والنقابية ، وهو ما ساهم بشكل كبير في الرفع من مستوى المشاركة الانتخابية من جهة ، ومن جهة أخرى دفع ذلك إلى تضمين برامج التحالفات المتنافسة عددا من القضايا الرئيسية لهذه التنظيمات المدنية .
وهو ما يؤكد بالملموس بأن جسم المجتمع المدني لا يجب أن يكون معزولا على النسق السياسي أو مكونا تابعا في أفضل الحالات ، بل يجب أن يكون منخرطا في قلب النقاش السياسي وخاصة في دفاعه عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، والحريات العامة وغيرها من القضايا التي تشكل جوهر نضالات الحركة المدنية والشبابية، و فاعلا أساسيا في الديناميات الانتخابية تعبئة وترشيحا وتصويتا .
وبغض النظر عن باقي المعطيات والتفاصيل الأخرى المرتبطة بنتائج هذه الانتخابات والتي تخص المواطن الفرنسي بشكل أساسي، فهذه فقط بعض الاستنتاجات التي قد تحتمل الصواب كما قد تحتمل الخطأ ، ولكنها حتما يمكن أن تشكل أرضية متواضعة لاستخلاص بعض الدروس في علاقة بديناميات الفعل السياسي والانتخابي والمدني بالمغرب.