د. هشام خلوق صالح
دخلت قلعة “الحسن بن شقرون” صبيا فاتحا، بعد أجيال وأجيال من رحيل آخر “ليوطي”، حاملا محفظتي على ظهري، والحلوى في جيبي، شاهرا قلمي. ولأنني أكره الفوضى، ولأن حال المدرسة استفزني، ضربت بالقلم موضع الألم، فسالت قصيدة “الكلاب المسعورة” لتخلق الحدث… ولم يكن ذلك قصدي…
ربما كتبتها لأنني لم أتحمل فك الارتباط بالابتدائي حيث الانضباط، والتحول مباشرة للإعدادي حيث الفوضى العارمة…
في المدرسة الجديدة كانت أسوأ لحظات الفوضى حين يرن جرس الاستراحة، وكأنه جرس طوارئ… يخرج سجناء الأقسام في صخب ممزوج بقلة أدب، ليزدحموا بالممرات نحو الساحة. فتمتزج أصواتهم وروائحهم لتخلق سحابة من التلوث غير المحتمل. لذلك كنت أحبذ الجلوس في مقعدي بالقسم، في انتظار أن يفرغ القسم وتفرغ الممرات. فأخرج وأنا أسأل نفسي:
لما التسابق على ساحة استراحة متاحة، تسعنا جميعا؟
ووجدت الجواب بعد سنوات من التكاتف في زحمة الحياة، بأرض تسعنا جميعا لكننا نتقاتل على بقع ضيقة فيها، لذلك كنت ولازلت أكره التسابق على شيء يكثر حوله الطامعون. التناطح والتضارب بالأكتاف والأيدي من أجل أطماع حياتية تافهة، ومن أجل أشياء يوحدها الفناء، جعل الحياة صاخبة وجنونية وحيوانية وبهيمية وانتقامية تسودها الكراهية، وتنحو نحو الهاوية، وما أدراك ما هي…
الحشرات تأكلها غواية نار الموقد حين يسلب لبها اللهب المتراقص من بعيد رقصا شرقيا مثيرا، وتظن الخير في التسابق والارتماء على خصر اللهب البراق، لتقف بعد الاشتعال على حقيقة أن كل براق حراق، وأن في الخِصر خُسر…
والبشر كالحشرات، بل هم أضل… تأكلهم نار الحياة حين يشتد السباق المحتدم بينهم حدّ الدم، وفي سباقهم يأكل بعضهم بعضا جسديا ومعنويا كما تأكل النار الحشرات… وإن سألتهم أجابوا بكل براءة: إنما نقتل لنعيش، والحقيقة أنهم يعيشون من أجل القتل، لا أكثر ولا أقل…
حتى الحج لم يسلم من سباق التضارب بالأكتاف، والقفز فوق الأعناق حدّ الاختناق، من أجل كلمة “سيدي الحاج”، إلا من رحم ربي…
فكرة القصيدة جاءت إذن من وحي الازدحام والتضارب بالأيدي والأكتاف، من أجل الوصول لساحة تسع الجميع. ورغم أن كلماتها مسيئة، إلا أن طابعها الفكاهي خفف من حدتها. وأظن أن الحمولة الانتقادية لم تكن سببا لإقبال التلاميذ عليها، بل مقاطعها الفكاهية.
وصل أمر القصيدة لإدارة المؤسسة، وكنت أتوقع استدعاء منها. استعددت نفسيا لتلك اللحظة، وأعددت الجواب. لكن الاستدعاء جاء من أستاذ الرياضيات القريب من الإدارة.
كان أستاذا مميزا، يرى من بعيد. بطول برج خليفة، ومن الطول الفارع تقوس ظهره لدرجة الميلان. كما تميز بشفتين صغيرتين محتجبتين تحت شارب كثيف وناعم، حتى أنه حين يتحدث يتحرك منه الشارب وليس الشفتان، فيظهر كأنه يتحدث بشاربه.
لازلت أتذكر تلك اللحظة وهو يدخل القسم، وبدل السلام قال بشاربه الناعم واللامع، الشبيه بشعر دمية من نوع “صنع بالصين”:
- أين الشاعر؟
صمت رهيب… كأن القسم فارغ…
استجاب للصمت، وجلس على مكتبه، وحرر ساقيه الطويلتين خارج المكتب، ثم أدار رأسه نحوي وقال: - شاعر المدرسة… تعال…
كانت تلك أول مرة يناديني فيها أحدهم بالشاعر، لأنني نفسي لم أكن أظن اللقب يليق بي، فهو كبير وحقيق بالكبار، لا بصبي مثلي. وفي وضع آخر كان من الطبيعي أن أفرح باللقب خاصة أنه من أستاذ. لكنني لم أفرح، لأن طبعي ألا أفرح للمدح، كما أنني أعلم أن لفظ شاعر مجرد تهكم من أستاذ سيوبخني بسبب إساءة الأدب مع الإدارة والأساتذة والتلاميذ. لذلك كان تركيزي على حساسية الموقف أكثر من أي شيء آخر.
كنت حينها وربما لازلت هادئا قليل الكلام، وفي نفس الوقت عنيف الرد حين تمس كرامتي. وفي الخطوات التي قطعتها من المقعد القريب من الباب في أقصى اليمين، إلى مكتب الأستاذ القريب من النافذة في أقصى اليسار، تخيلت السيء من السيناريوهات، وأعددت نفس الأجوبة التي كنت سأواجه بها الإدارة، خاصة أن أستاذ الرياضيات مزاجي، ومعروف بردود فعل غير متوقعة.
حين وصلت لمكتبه، مال عليّ بكامل جسده الطويل كأنه واقف رغم أنه جالس، ثم حرك شفتيه الصغيرتين المحتجبتين تحت الشارب الكثيف احتجاب “سمراء قوم عيسى”، وقال ما سأحكيه في المقطع القادم… إن شاء الله…