-الجزء الأخير
بقلم/م.بونجمة
كان سيل الدماء ينهمر من أذن الصغير كمعين غزير ملأت غزارته كفّي الأم حتى خُيِّل إليها أنه من جوف الرأس نبعَ، انتابها دوار فُجائيّ قاومت وقعه مسندة كتفها إلى سورٍ، وبطريقة وصل النبؤ إلى الأب ليبدو قادما بخطوات بالكاد قوى على مواصلتها.. وها أنذا أراه ممسكا يد صغيره لافّاً حول أذنه المصابة فوطةً حمراء اللون، أو بالأحرى صبغت حمرة الدماء بياضها.. استقلّا سيارة أجرة، وفي أخرى ركبتُ أنا طالبا من سائقها اللحاق بهما.. توقفت السيارة عند مستشفى “الغسانين” أحد مستشفيات مدينة فاس، دلف الأب ممسكا الصغير بيد وقد واصلت يده الأخرى ضغط الفوطة على الأذن كبحاً للنزيف، “ماذا هناك؟” سأل طبيبٌ ليردّ الأب بإزاحة الفوطة عن موضع الإصابة كاشفا عن الأذن بقلب راجف وقد ألقى بطرف عينه نظرته الأولى إليها، ماإن رأى الطبيب الإصابة حتى علّق قائلا: “آسف، لكن إصابة كهته تحتاج تدخل مختصٍّ، وهو غير متوفر في المستشفى حاليا”، ثم استطرد دالّاً الأب على المشفى المناسب لإسعاف صغيره..
كانت الوجهة مستشفى “باب الحديد”، هناك حيث أُدخِل الصغير إلى غرفة العمليات قصد خياطة أذنه، فوق سرير تمدّد على جانبه الأيسر حينما دخل الجرّاح، وُضِع عازل من الثوب على وجه الطفل، عازل توسطته فتحة أبقت على الأذن ظاهرة فيما غطّي باقي الوجه، تناول الطبيب إبرة احتوت مخذّراً سرى موضع الأذن بعدما غُرِزَت فيها، دقائق بعدها لتبدأ خياطة الأذن.. غاص رأس الإبرة المدبب المرهَف في الأذن فرأيتُ الصغير يغمض عينيه وقد زمّ شفتيه كاتماً صرخته، أدار الجرّاح الإبرة فارتفع الجلد مع ارتفاعها ليتمَّ القطبة فسالت دمعت من عين الطفل، واستمرّ الطبيب في عمله منهمكاً في تخييط الأذن..
كنت أعاين الوالد مترقبا نهاية العملية وقد بان بريق أبوة حانية في عينيه، عينين زاد بريقهما وهما يرقبان باب الغرفة يُفتح ليظهر الجراح معلنة نجاح العملية، وها هو السيناريو ذاته يعيد نفسه بامتلاء البيت بالمنتظرين العودة، عودة الصغير بسلامة وعافية.. وتعاقبت الأيام، و جُبِرت الأذن وشُفِيَتْ إلا من أثر نذبٍ ظلّ شاهداً على الحادث، محنة هي الثانية قد ولّت، محنة لم تكن الأخيرة، فقد أُتبِعت المحنتان بثالثة حينما صُدِم الصغير بسيارة وهو يركض خارجا من أحد دروب الحي مسابقا أقرانه لتحرير نفسه من دور المفتش عن المختبئين أثناء لعبة “الغميضة”، صدمته سيارة دارت ساقه اليمنى مع عجلتها دورانا مارة فوقها جاعلة من حذاء الصغير قطعة متلاشية.. لقد كُسِرت الساق، هُشِّم كاحله الأيمن تهشّما إثر كسور متعددة، وُضع جراءها جبصٌ غطى رِجله من أسفلها حتى الورك لشهر ونصف، شهر ونصف لزم خلالها الصغير الفراش قبل خلع الجبص وبدء الترويض..
وتعافى بمرور الأيام، أيام تعاقبت فأمست شهورا زحفت بدورها فأضحت أعواما، أعوام كبر خلالها الطفل الصغير فصار فتىً.. ذات صباح، وأنا مستلقٍ على الأرض وسط الخُضرة عاقداً ما بين يديّ واضعا إياهما خلف رأسي، سمعت وقع خطوات كسرت الهدوء، جلستُ محملقاً أستكشف مصدرها، فإذا بهذا به الفتى يتقدم متجها إليّ وقد ركّز عيناه على عيناي للمرة الأولى منذ أن وطأَت قدماي هذه الطبيعة، استمرّ بالتقدم حتى أصبح أمامي واقفا وعيناه لا تزالان إليّ شاخصتان.. قُمت واقفاً أتفرّسُ ملامحه ملتقطاً أنفاسي من لهاثٍ غير مفهوم ودقات قلب متسارعة، وأنا أتفحص وجهه عن قرب مُسترجِعاً شريط كل ما رأيت عيناي منذ لحظة لحاقي بالصغير المجهول إلى الآن، وهو قبالتي متابعا نظره إلى عينيّ مباشرة وكأنه كان زائراً متوقّعاً، أَو غائباً مُنتظَراً، أَو حبيباً مشوقاً، سرت في جسدي شعلة غريبة جعلَتني أرتجف، وأتّقِد، وأنجلي، وأتسامى، وأتذكّر.. أتذكّر كلّ لحظة من لحظات اللحاق بالصغير جلَّتْ على الحصر منذ أوّل رمق حتى اللحظة، لقد عرفت الواقف أمامي، لقد عرفت من يكون الفتى..منذ البداية وأنا ألاحق ذاتي بغية بلوغ أنايَ، بغية كشف عمقها، خباياها وأسرارها..لقد كان الفتى أنا.. لقد كنت أنا الفتى…
خاتمة:
كنت أعتلي منصة مرتدياً لباس التخرّج-تخرُّجي مجازاً- وقد جاورني رجل لمعت عيناه فرحاً والتُقِطَت صورة وثّقتِ اللحظة، لينفضّ الجمع مع انتهاء الحفل.. في الخارج، كانت حافلة تقف بانتظاري، تقدّمتُ صاعدا درجها، أجلتُ بصري داخلها، كان مقعد واحد لايزال فارغاً من بين ثلاثين مقعداً فقصدته.. كانت وجوه الركّاب ترمقني بنظرات تختزل حبّاً، تقديرا واحتراما، فكسِرُ صوت الهدوء بصوتٍ خاطبني وحزمٌ بادٍ في نبرته: “صغيرٌ عُمُرا، كبيرٌ أنت بما سواه أيها القائد، عقبه صوت سيدة تكلّمت قائلة: “صِدقاً أود سيْرَ أبنائي على خطى كخطاك”، حطّت يدٌ على كتفي من وراءٍ وقد صدرت عن صاحبها ضحكة مسموعة وهو يختتم الكلام دون انقطاعٍ لضحكته: “هكذا يا مايسترور كهذا إذن، لم يكن من أتعبك لِحاقه سوى أنت بذاتك”، حُفِرتِ الكلمات في قلبي وبرقت عيناي إثر سماعها شغفا وحبّاً.. حينها كان السائق قد أدار محرِّك الحافلة لتنطلِقَ شاقّةً سبيلها عبر طريق طويل.
تَمَّت.