بقلم/م.بونجمة
-تتمة-
كان أنين الطفل لا يزال متواصلا وقد امتقع لونه مُصطبغاً بصُفرة غير عادية، بينما واصلتِ المرأة غمر منديلها في الماء البارد لتضعه فوق جبينه وأنا أراقب المشهد عبر فتحة النافذة..وضعٌ جعل المرأة في حيرة من أمرها خصوصا مع جهلها سبب جعل الصغير طريح فراشه لايقوى إلا على أنينٍ يُكسر القلب وعينين مغمضتين ما إن فُتحت إحداهما حتى بدت كجمرة مشتعلة هرعت المرأة بمجرد رؤيتها خارج الغرفة قبل أن تعود ممسكة بهاتف كانت أصابعها الراجفة بالكاد تقويان على إجراء اتصال عبره، واضعة سماعته على أذنها مُتحدثة بكلام صَحِبَهُ بكاءٌ جعل إدراكه عليَّ مُستعصياً.. فما هي إلا لحظات حتى سُمِع وقع أقدام مسرعة ليدلف باب الغرفة رجل ما إن وقعت عيناه على الصغير حتى هرع يحمله بين ذراعيه..
في الخارج، كانت سيارة قد رُكِنَت على مقربة من باب المنزل وقد أدار سائقها المحرّك مسبقا.. ركِب الرجل المقعد الخلفي حاملا صغيره بين يديه، فيما ارتدت المرأة أقرب جلبابٍ تقع يداها عليه ليخاطبها الرجل محدثا إياها بعدم تحمل عناء التنقل بدورها بدعوى أن الصغير سيكون على ما يرام، وبأنه سيوافيها على أي حال بكل مستجدّ يخص وضعه.. أخذت عجلات السيارة في الدوران ليتعالى نداء من المرأة بصوت متهدّج وهي تمسح ما تناثر من لئالئ دموعها مراقبة ابتعاد السيارة: “وافني بحال صغيري، وافني بحال فلذة كبدي، قلبي معكما..” ليطمإنها الرجل عبر الزجاج الخلفي بإيماءةٍ قبل أن تنطلق السيارة مخلّفة وراءها هالة غبار.. لم أفكر مرتين، فوجدتني ألحق السيارة، ولم تكن وسيلتي لذلك سوى دراجة هوائية كانت مسندة على أحد جدران البيت.. كانت السيارة تشق طريقها مبتعدة، فما تكاد تغيب عن ناظريّ حتى أزيد من سرعة ضغطي على دواسات الدراجة لأقترب منها أكثر فأكثر.. توقفت السيارة أخيرا قرب مستشفى ليهرع الرجل إلى الداخل وصغيره بين ذراعيه مرتجفا فخلفه مضيت، ما إن رأى الطبيب عين الصغير المحمرّة حتى أمر له بفحص استعجالي لتشخيص حالته، أُخِذَ الطفل إلى غرفة الفحص فيما أخد الرجل مكانا ضمن قاعة الانتظار مترقبا نتيجة الفحص، وقبالته وجدت لي مكانا.. مطأطأ الرأس مشبكاً أصابعه من التوتر كان جالسا ينتظر في لحظات بدت وكأنها دهرٌ كامل، لاشيئ حقا أصعب من الانتظار.. لحظات ترقب وسط هدوء سرعان ما كسّر وطأته وقع خطوات أقدام مسرعة، رفع الرجل رأسه ناظرا إلى القادم ليبادر قائلاً: “لكن!! لكن لِمَ أت…”لتقاطعه المرأة مجيبة :”لم أقوى على انتظارٍ” فجأة.. ظهر ظلّ الطبيب وراء زجاج باب غرفة الفحص قبل أن يُفتَح ليهمّ الرجل متسمّرا أمامه وقد تبعَته زَوجته، “أخبرني ما الأمر؟ أهو بخير؟؟” سأل الرجل ليجيبه الطبيب مشيحاً نظره جانبا: “ليس هناك ما أخفيه سيدي، عين الصغير أصابها”ميكروب” هو سبب الاحمرار، ولا سبيل للتخلص منه سوى إجراء عملية جراحية”..كان وقع جواب الطبيب على الوالدين كقطعة ثلج، اغرورقت عينا الأم وانهمر ماءهما، وبدورها تساقطت دموع الأب ساخنة، جاهد ليخفيها من أجل أكذوبة أن الرجال لا يبكون، لكن عبثاً حاول..
رافق الوالدان صغيرهما إلى غرفة العمليات بعدما أبى الصغير مفارقتهما ليستجيب الطبيب لطلبه محدثا إياهما بالمغادرة عقب نوم الصغير جراء مفعول المخذّر، دخل القاعة طبيب مختص في التخذير، نظر إلى الصغير بوجه باسم محدثاً إياه: “أهلا يا بطل، أخبرني أتعجبك كرة القدم؟” ليجيب الصغير بإيماءة فاستطرد الطبيب: “جميل، أتعرف اللاعب زين الدين زيدان؟ زيدان قبل خوض أي مباراة يأخذ نفسا عميقا هكذا” ثم وضع على وجه الصغير قناعا أسود غطى فمه وأنفه، ثم طلب منه أخذ نفس عميق..كانت يدا الصغير لا تزالان ممسكتان بأمه التي طُلِب منها مغادرة الغرفة صحبة الأب، كانت يداها تنفلت من بين أصابع الصغير وقد سقطت دموعها مجددا، فيما كان الصغير يحاول بكل ما أوتي من قوة التشبت بأمه وهو ينظر إلى عينيها نظرة لا يمكن أن أنساها، نظرة تختزل الاستغاثة، الاستجداء، تختزل الحنوّ الذابح والرجاء القاتل، كانت عيناه تقولان: “لا تتركيني وحدي يا أمي”…
يتبع.