بقلم: الدكتور/ ع.المراكشي الغواسلي
لم يعد يفصلنا عن الاستحقاقات السياسية المقبلة إلا أشهر قليلة، ثم تبدأ الحملة الانتخابية من أجل السباق للفوز بمقعد في القبة المعلومة، ولتحقيق هذا الغرض ستخرج الأحزاب من دواليبها بعض الكنانيش التي كانت قد دونت فيها بعض البرامج لتحينها قليلا وتدخل عليها بعض التعديلات-ولو بطريق القص واللصق، أو التقديم والتأخير ،أو الحذف والزيادة -لتقدمها مرة أخرى طبخة بلا طعم ولاذوق ولا رائحة للناخب المغلوب على أمره لتنتزع منه صوته الذي لم يعد يملك غيره.
هكذا إذن ستأتي هذه الأحزاب مرة أخرى بأبلغ عرابيها وأمهر سحرتها ممن يتقنون فن ممارسة اللعب القولي لتشنف أسماعنا بخطبها العصماء مستعملة فيها أحدث أساليب الإيهام والتمويه على المقول له ليقبله ويتأثر لمقتضاه،ومن ثم إلهائه عن تفقد موضع الكذب والخلل، قبل الإيقاع به في شباكها من جديد، وتنجح بذلك في تحويل انقباضه إلى انبساط، ونفوره إلى ميل، وهروبه إلى طلب، وإلقائه في دوامة أخرى يصعب عليه الخروج منها.
إنني بهذا الكلام لا أدعو إلى مقاطعة الانتخابات،كما أنني لا أدعو إلى الإقبال عليها، فهذا ليس من شأني لأنني لا أسمح بأن أنصب نفسي وصيا على أحد، ولكنني أردت أن يكف مسؤولو هذه الأحزاب السياسية عن مجرد الكلام الذي لا يقدم بقدر ما يؤخر ، ويعمدوا إلى العمل الجاد الذي ينفع المواطنين ويحسن سبل عيشهم، و يفتحوا المجال لدمج الطاقات الشابة من النساء والرجال الوطنيين الصادقين، وليس من هم أصحاب استرفاد مسف أو طالبي عطاء ذليل أو قاصدي سبب رخيص.
إن السياسة التي نطمح إليها ترتبط بالإنسان وتعانق همومه، وتشاركه أشجانه، وهي بذلك تسهم في عملية التوجيه التربوي والخلقي من خلال فعل الإنهاض .فالسياسة لا يمكن أن تحقق مقصدها في المواطن إلا إذا كان هذا الأخير وكدها وهمها الأكبر، وكانت لصيقة بهواجسه معبرة عن آماله وآلامه حاملة تطلعاته.
أما أولئك السياسيون الذين قصرت بهم همتهم على أن يفوا بعهودهم ويكونوا في مستوى وعودهم، فحري بهم مغادرة هذه الصناعة إلى ما سواها.
إن التمويه والاستدراج والإلهاء والاستمالة والاستلطاف وإيقاع الحيل بالمواطن البسيط لن يفيد ولا يمكن أن يساعد الوطن على تحقيق نهضة حقيقية وازدهار ملموس، من أجل محاولة السمو بالسياسة التي بلغت الحضيض من جراء الفوضى التي عمت زمننا هذا، فأقامت للمتجاسرين والسفلة والأنذال والأخساء شأنا وسط اضطراب القيم والمعايير.
إنه من غير المستساغ ولا المفيد أن يظفر نائب برلماني بمقعد في البرلمان، فيحلق بعيدا عن دائرته ويهملها ثم يعود مرة أخرى وقد عقد العزم على الترشح فيها من جديد.
والواقع أنه وراء كل سياسي عظيم ناخب عظيم: فالناخب الساذج البارد الخامل المرتشي لا يصنع منتخبا نزيها شريفا ووطنيا،وإنما يصنعه الناخب الواعي الذي عنده غيرة حقيقية على حارته وبلدته ووطنه.
إنها دعوة إلى كل المواطنين الشرفاء أن يحكموا ضمائرهم قبل اختيار ممثليهم ولا ينخدعوا بتدين زائف أو يطمعوا في مال حرام.فكل واحد منا مسؤول عن صوته وحتى لا يقال له ” الصيف ضيعت اللبن ” وهي كناية عن الرجل الذي يضيع فرصته في تنفيد أمر أو تحقيق غاية، ثم يعود بعد ذلك ليتباكى نادما على سوء حاله وخيبة مآله.
إنه يجب علينا أن نستدرك الوضع ونستخلص العبر والدروس ونستغل الفرصة قبل أن يقع لنا ما وقع للضفدع المغلي الذي لا يشعر بالحرارة إلا بعد فوات الأوان.
إن ما عاشه المغرب في الأيام والأسابيع القليلة السابقة على المستوى الخارجي قد كشف لنا أكثر من أي وقت مضى ضرورة تقوية الجبهة الداخلية عبر ترسيخ قيم المواطنة والديموقراطية الحقيقية من أجل الوصول إلى برلمان له مصداقية، ثم حكومة متينة قادرة على مواجهة التحديات المقبلة بكثير من الثقة والثبات والفعالية.والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.