بقلم/ م.بونجمة
استيقضتُ على وقع صياح ديك تسلل إلى مسامعي موقظا إياي من رقدتي، لملمتُ أطرافي، مسحت الأرجاء بناظريّ أستكشف الفضاء المحيط بي، كان خلوا مما عدا خُضرة صبغت الأرض لتبدو على إثرها كبساط مُبهر وقد رُصِّع ببناية مميزة بدت أسوارها شامخة من بعيد في مشهد جعل قدماي تتحرك صوبه تلقائيا لمعرفة ماخلف الأسوار من مزيد أسرار.. خطوتُ شاقا طريقي نحو البيت القائم وحيدا وسط الخُضرة، خطوت وغموض لذيذ كان محرّكي.
بلغتُ الموضع حيث البيت، وعبر نافذة توسطت أحذ أسواره نظرة ألقَيتُ، فتهللت أساري وخفق قلبي خفقانا بما رأيتُ.. بجوار امرأة كان الصغير المجهول يجلس وسعادة غامرة تشوبه، سعادة تعرفها لمجرد النظرة الأولى لقسمات وجهه.. بجوارها كان جالسا يراقبها منهمكة في تفنيد عجين خبز تقليدي بخميرة ليأخذ مرحلته الأخيرة في الاختمار قبل دخول الفرن، وقد برقت عينا الصغير فرحا وهي تناوله شوكة أخذ يطبع بها على “كريصات” الخبز ثقوبا بعدما ألحّ على المرأة بتوكيل المهمّة إليه.. كانت يدا الصغير تنهال بالشوكة على كل “كريصة” توضع أمامه لتأخذ طريقها بعد ذلك صوب الفرن، فيأخذ الصغير حينها طريقه خارج البيت لينهمك في اللعب، يستلُّ من جيبه خيطا يلفّه حول بُلبُلٍ خشبي، يتخذ من نقطة على الأرض هدفاً يُجهز عليه برميات متوالية حتى يصيبه.. ماهي إلا لحظات لتتسلل رائحة شهية إلى الأنوف موحية بجاهزية الخبز، يتعالى نداء من داخل البيت، يُجيبه الصغير مهرولا تجاه مصدر الصوت، تُناوله المرأة قطعة خبز ساخنة بعدما دُهِنت بزبدة بلدية، يزدردها الصغير بنهمٍ لا يضاهى وأنا أراقبه عبر النافذة في مشهد أسال لعابي..
تُسمَعُ نغمات موسيقى، فيهرع الصغير متسمرا أمام شاشة التلفار مشدوها بمغامرات “روميو فتى المداخن” روميو منظف المداخن الطموح الذي جابهَ متاعبه في روما، روميو الذي طالما حفظ عهد الأصدقاء، روميو صديقي حافظُ عهد الأصدقاء، روميو الذي علمنا معنى الوفاء، علمنا ألا نخشى الآلام.. كنتُ أراقب الصغير وبريق استثنائي يشع من عينيه وهو يعيش أحداث بطله، بطل جسد معاني المروءة وهو لم يتجاوز ربيعه الحادي العشر.. يصعد جنريك النهاية معلنا نهاية مغامرة اليوم ليبرح الصغير موضعه نحو الخارج مواصلا لعبه، بينما قد اكتفيتُ أنا بمعاينته عن بعد في حركاته وسكناته، في صولاته وجولاته على مقربة من البيت إلى أن أخذت شمس النهار في المغيب مستتِرةً باستحياء وقد صبغت حمرة الغروب محياها وهي تتلاشى كعروس تختبئ خجلا وراء حجاب بعدما رمقتها نظرة حب من عاشق مجنون، لتتوارى عن نظري ويتوارى معها الصغير داخل البيت..
قصدتُ الشجرة المجاورة للبيت، وإلى جذعها أسندتُ ظهري ورحت أراقب تلألؤ النجوم في صفحة السماء مسترجعا شريط كل المشاهد التي رأيت خلال يومي الأول في ضيافة هذه الطبيعة الساحرة حتى تراخت جفوني فنِمتُ فجأة كأن ثوبا من نعاس قد غطى عيناي وغشيَ كل جواوحي فهمَدْتُ..
بزغت شمس الصباح مبددة نعاسي معلنة بداية يوم جديد، فُتِح باب البيت ليظهر الصغير حاملا بلبله الخشبي وكأنه كان ينتظر مجرد بزوغ الضوء ليهرع إلى اللعب، وقد لحقت به المرأة ذاتها التي رأيته يجاورها أمس، لحقت به وهي تناوله كعكة ذهبية بعدما رفض إمكال فطوره، قبل أن تطبع قبلة على جبينه ممطرة إياه بالدعوات.. يخلبُ سحر الطبيعة لبّي وأنا أراقب المشهد، تسحرُ خضرتها عيناي، تُطرب زقزقة عصافيرها أذناي و يملؤ نقاء هوائها رئتاي.. يُسمَع الجنريك المعلوم فيستجيب الصغير، ليعود بعدها مواصلا لعبه حتى مغيب الشمس.. ومرّ ثاني أيامي بمحاذاة البيت القابع وسط الخُضرة.. حلّ اليوم الثالث فالرابع وأنا أراقب الصغير، تعاقبت الأيام فأمست شهوراً، كنت أراقبه كل صباح وهو يدلف باب البيت بسعادة وشوق لبدأ اللعب، يسمع الجنريك ليغيب الصغير للحظات قبل أن يعود مجددا مواصلا نشاطه إلى أن تُبدّل شمس السماء ببدرٍ يضيء سواد الغسق..
ذات صباح استفقتُ متعبا على غير المعتاد إثر ضوء الشمس وأنا مستلق تحت ظل شجرتي، تأملتُ منظر السماء، هناك شيئ غريب يحدث!! شمس هذا الصباح ليست كشمس الأيام الخوالي، لاهي حارة فتُدفِئ، ولا باردة فتُبرِد، وقد غطتها غيمة تميل إلى السواد.. حتى باب البيت لم يُفتَح ليظهر الصغير كالمعتاد.. مذا يحدث!! دنوت من البيت أتفقد سبب الغياب، فإذا بأنينٍ يشقُّ الهدوء، تبعت مصدره فقادني إلى نافذة غرفة سفلية، ألقيتُ نظرة لأجد الصغير ممدّداً فوق فراش يإنُّ بوجع مغمضا عينيه، بينما تعصرُ المرأة منديلا بعد أن غمرته في ماء بارد لتضعه فوق جبينه محدّثةً إياه بصوتٍ مُتهدِّج : “اِفتح عينيك ياصغيري مابك؟؟!”…
يتبع.